شهد الاقتصاد الصيني خلال المرحلة اللاحقة لجائحة كوفيد – 19 تعافيًا مخيبًا للآمال، مما أثار شكوكًا كبيرة حول أسس النمو المستدام الذي حققته الصين على مدى عقود. تواجه بكين الآن خيارات صعبة لعام 2024 وما بعده، حيث يجب عليها إما تحمل عبء مزيد من الديون أو تحقيق نمو أقل
هل تعيد الصين معجزتها الاقتصادية للمسار الصحيح في 2024؟.
كانت التوقعات تشير إلى أن رفع الصين للقيود الصارمة المفروضة لاحتواء انتشار الفيروس سيؤدي إلى عودة المستهلكين لمراكز التسوق واستمرار تدفق الاستثمارات الأجنبية واستقرار الأنشطة الصناعية والعقارات. ومع ذلك، بدأ المتسوقون الصينيون في الادخار احتياطيًا لمواجهة أيام صعبة محتملة، وقامت شركات أجنبية بسحب استثماراتها، مما أدى إلى تراجع في الطلب من الغرب.
انعكست هذه التحديات على الموارد المالية للحكومات المحلية، حيث تأخرت شركات التطوير العقاري في سداد الديون. هذا الواقع المرير أعطى مسوغًا للمتشككين في نموذج النمو الصيني، الذي يُعرف بالمعجزة الاقتصادية.
يشير الانتقاد إلى فشل بكين في تحويل اقتصادها من تنمية يقودها البناء إلى نمو مستدام قائم على الاستهلاك. وفي ظل تزايد الديون، تكافح الحكومات المحلية وشركات التطوير العقاري لسداد الخدمات المستحقة.
رغم التعهدات بتعزيز الاستهلاك وتقليل اعتماد الاقتصاد على العقارات، إلا أن وضع خارطة طريق طويلة المدى لتسوية الديون وإعادة هيكلة الاقتصاد يظل تحدًا بعيد المنال. وسوف تضطر الصين إلى مراعاة شيخوخة السكان وانكماش عددهم، إلى جانب التحديات الجيوسياسية في ظل قلق الغرب تجاه التعامل مع ثاني أكبر اقتصاد في العالم.
أهمية الأمر
من المتوقع أن يحقق اقتصاد الصين نموًا يتجاوز الـ5 في المائة خلال عام 2023، متفوقًا على سرعة نمو الاقتصاد العالمي. ومع ذلك، تظهر الأرقام الاقتصادية الصينية حقيقة صادمة، حيث تستثمر الصين أكثر من 40 في المائة من إنتاجها، وهو مستوى يعتبر ضعف ما تستثمره الولايات المتحدة. يشير ذلك إلى أن جزءًا كبيرًا من الإنتاج لا يسهم في الناتج المحلي.
تعني هذه الواقعية أن الكثير من الصينيين لا يشعرون بالنمو الاقتصادي الذي يُعلن عنه. وفي يونيو، تجاوزت معدلات البطالة بين الشباب 21 في المائة، وهي آخر بيانات تم نشرها قبل توقف الصين عن إصدارها بشكل مثير للجدل.
خريجو الجامعات يجدون أنفسهم يعملون في وظائف لا تتطلب مهارات كبيرة لتغطية نفقاتهم، في حين تتراجع أجور العمال في بعض القطاعات. ويشعر أصحاب المنازل بأنهم أكثر فقرًا في اقتصاد يعتمد بنسبة 70 في المائة على العقارات.
حتى في القطاع الناجح للسيارات الكهربائية، أثرت الحروب التجارية في الأسعار، مما أحدث اضطرابًا للموردين والعمال. يحذر محللون من أن التشاؤم على الصعيدين الوطني والاقتصادي قد يعرض الرئيس شي جين بينج لتحديات تتعلق بالاستقرار الاجتماعي.
هذا يعد تحديًا واسع النطاق، خاصةً مع تأثير الصين كمورد رئيسي لمعظم الصناعات العالمية، واعتماد العديد من الدول على شراء الصين للسلع الأساسية وتمويل التصنيع.
ماذا عن 2024؟
تواجه الصين تحديات كبيرة تضعها أمام مفترق طرق حيث لا يتسنى لها إلا اتخاذ بعض القرارات الصعبة في الوقت الحالي. يسعى صناعو السياسات إلى تغيير بنية الاقتصاد، ولكن التحول الاقتصادي دائمًا كان أمرًا صعبًا في الصين.
تعثرت جهود تعزيز رفاهية الملايين من العمال المهاجرين الريفيين، الذين يمثلون نسبة كبيرة من السكان، ويمكن أن يساهموا بنسبة 1.7% في الناتج المحلي الإجمالي إذا تمت إمدادهم بالخدمات العامة على نحو متساوٍ مع سكان المناطق الحضرية. وتعاني الصين من تردد في تحمل التكاليف والمخاطر المحتملة لتحسين حياة هذه الفئة الكبيرة من السكان.
تصطدم جهود الصين لحل مشاكل قطاع العقارات وإدارة الديون بمخاوف بشأن الاستقرار الاجتماعي وتوزيع تكاليف الإصلاح. السؤال الرئيسي يكمن في من سيتحمل تبعات الاستثمارات السيئة: البنوك، الشركات الحكومية، الحكومة المركزية، الشركات الخاصة، أم الأسر؟ اقتصاديون يحذرون من أن أي خيار قد يعني ضعف النمو في المستقبل.
في الوقت الحالي، يظهر أن الصين تتردد في اتخاذ خيارات تستلزم تضحية بالنمو من أجل تحقيق الإصلاح. تحث مستشارو الحكومة على تحديد هدف للنمو عند 5% للعام المقبل، وهو هدف يتناسب مع الخطة الخمسية لعام 2023. وعلى الرغم من أن هذه النسبة قد تكون متوافقة مع الهدف الكلي، إلا أنها قد لا تحظى بالتقدير نفسه على أساس سنوي، خاصة في ظل التباطؤ الذي نجم عن إجراءات الإغلاق في العام 2022.
هذا الهدف قد يدفع الصين نحو مزيد من التسارع في التداول بالديون، مما أدى إلى تقييم سلبي من وكالة موديز للتصنيف الائتماني، وزيادة تراجع الأسهم الصينية إلى أدنى مستوياتها في خمس سنوات.
وتواجه الصين تحديات كبيرة في الفترة الحالية، مما يضعها أمام الضرورة الملحة لاتخاذ قرارات هامة بشأن استراتيجيتها الاقتصادية. وفي هذا السياق، أعلن لي تشاو، المتحدث باسم اللجنة الوطنية للتنمية والإصلاح، عن أن الصين تسير على الطريق لتحقيق أهداف التنمية الاقتصادية والاجتماعية الرئيسية لعام 2023.
وأشار تشاو في مؤتمر صحافي إلى أن اقتصاد البلاد يتجه نحو التعافي بشكل ملحوظ، وذلك بفضل تفعيل السياسات الداعمة للنمو وتحفيز الاستثمار. وأكد أن لديهم الظروف والقدرة لتعزيز الأداء الاقتصادي، وتعزيز الزخم الداخلي، وتحسين التوقعات العامة، وتفادي الأخطار.
من المتوقع أن يسجل مؤشر أسعار المستهلكين في الصين نموًا معتدلا في عام 2024، وهو ما يعكس التوجه الإيجابي نحو التحكم في التضخم. وأشار لي إلى إكمال إصدار سندات الدين للحكومات المحلية حتى نهاية نوفمبر الماضي، مما يعزز الاستقرار المالي.
من ناحية أخرى، بدأت اللجنة الوطنية للتنمية والإصلاح في استعراض الخطة الخمسية الجديدة (2026-2030). وأعلن مدير اللجنة، تشنج شان جيه، أنهم سيُركزون على تعزيز التحديث الصيني والابتكار، وحل الاختناقات الرئيسية في النظام الاقتصادي.
في سياق آخر، دعا اجتماع اللجنة إلى تعزيز التحليل الاقتصادي والبحوث ذات الصلة بالسياسات لتعزيز التعافي الاقتصادي وتعميق الإصلاح. كما حث على تعزيز تنمية ونمو القطاع الاقتصادي الخاص، والحفاظ على استقرار التجارة الخارجية والاستثمار الأجنبي، وتعزيز الاقتصاد الرقمي.
تظهر هذه الجهود أن الصين تواجه تحديات جادة، ومع ذلك، يتعين عليها التوازن بين التحول الاقتصادي وضمان استمرار النمو، مما يجعل عام 2024 عامًا حاسمًا لمستقبلها الاقتصادي.
وأكد اجتماع حكومي في الصين على ضرورة تعزيز الاستخدام الاقتصادي والمكثف والدائري للموارد، مع التركيز على بلوغ ذروة الكربون وتحقيق الحياد الكربوني، وزيادة استهلاك الطاقة المتجددة. يأتي هذا في إطار جهود الصين لتعزيز الاستدامة البيئية وتحقيق التحول نحو اقتصاد منخرط بشكل أكبر في مفهوم الاقتصاد الدائري.
وفي سياق ذلك، أصدرت الحكومة المركزية تريليون يوان (141 مليار دولار أمريكي) في شكل سندات حكومية مركزية إضافية في الربع الأخير من عام 2023. تم استخدام هذه الأموال لدعم المشاريع التي تعزز الاستدامة وتعمل على تعزيز القدرات البيئية.
وكشفت اللجنة والإدارات الحكومية الأخرى ذات الصلة عن الدفعة الأولى من المشاريع التي ستستفيد من هذه السندات الإضافية. وقد تم توجيه هذه الأموال لدعم إعادة إعمار المناطق المتضررة من الكوارث وتعزيز قدرات الإغاثة في حالات الكوارث في البلاد.
تتنوع المشاريع المدعومة في الدفعة الأولى وتشمل بناء الأراضي الزراعية عالية الجودة في شمال شرقي الصين ومنطقة بكين-تيانجين-خبي، بالإضافة إلى بناء نظام متكامل للوقاية من الكوارث الطبيعية الرئيسة والسيطرة عليها. وتهدف هذه المشاريع إلى تعزيز التنمية المستدامة وتعزيز الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي في الصين.
وأعلنت وزارة المالية أنه تم تحويل مبلغ إجمالي قدره 237.9 مليار يوان إلى الحكومات المحلية لتمويل هذه المشاريع الحيوية التي تسعى إلى تحقيق أهداف التنمية المستدامة والاقتصاد الدائري.
وتمت الموافقة على إصدار سندات حكومية صينية بقيمة تريليون يوان (141 مليار دولار أمريكي)، وذلك بواسطة اللجنة الدائمة للمجلس الوطني لنواب الشعب الصيني في أكتوبر 2023. يأتي هذا القرار في إطار جهود الصين لتعزيز الاقتصاد وتحفيز المشاريع الحيوية.
من إجمالي هذا المبلغ، سيُخصص 107.5 مليار يوان للإغاثة من الكوارث وإعادة الإعمار والاستجابة للكوارث. كما سيتم تخصيص 125.4 مليار يوان لتحسين واستعادة 3.6 مليون هكتار من الأراضي الزراعية في 1336 محافظة في جميع أنحاء الصين، بالإضافة إلى خمسة مليارات يوان لبناء البنية التحتية للأرصاد الجوية.
سيتم توجيه باقي الأموال، التي ستتم جمعها من خلال إصدار السندات، وفقًا لمراجعات المشروع واحتياجاته، حسبما أفاد وانج جيان فان، مسؤول في وزارة المالية. وقد تعهد بضمان إنفاق الأموال بشكل فعّال وفقًا للأهداف المحددة.
من ناحية أخرى، اتخذت الهيئة الوطنية الصينية لتنظيم السوق، أكبر هيئة تنظيمية للسوق في البلاد، إجراءات لضمان استقرار الأسعار وجودة المستلزمات اليومية، خاصةً مع اقتراب عطلتي رأس السنة والربيع.
وأعلنت الهيئة الوطنية الصينية لتنظيم السوق عن تعزيز الإشراف على الأغذية، والمنتجات الصناعية، والخدمات الحياتية، والسلع الطبية، بهدف تلبية الاحتياجات اليومية للمواطنين خلال العطلتين. وتشمل جهود المراقبة متابعة الأسعار عبر الإنترنت وخارجه لفئات متنوعة من السلع والخدمات، مثل الأطعمة الأساسية مثل الأرز والخضراوات والبيض، بالإضافة إلى الإقامة والنقل وإمدادات الطاقة والأدوية.
وفي سياق التحديات الجوية مثل موجات البرد الشديدة والأمطار الغزيرة والثلوج الأخيرة، حثت الهيئة على تعزيز أنظمة الإنذار المبكر ووضع خطط للطوارئ، استعدادًا لتقلبات محتملة غير طبيعية في الأسعار ونقص بالسلع ناجم عن التغيرات المناخية.
وفي إطار الجهود الرامية إلى الحفاظ على استقرار الأسعار، دعت الهيئة إلى التصدي لأي انتهاكات، بما في ذلك التلاعب بالأسعار، بهدف ضمان استقرار أسعار السوق في نهاية هذا العام وبداية العام المقبل.